فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لا تحرك به لِسانك لِتعْجل به}
في الترمذي: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {لا تحرك به لِسانك لِتعْجل به} قال: فكان يحرّك به شفتيه» وحرّك سفيان شفتيه.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ولفظ مسلم عن ابن جُبير عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدّة، كان يحرّك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّكهما؛ فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحرّكهما، فحرك شفتيه؛ فأنزل الله عز وجل: {لا تحرك به لِسانك لِتعْجل به إِنّ عليْنا جمْعهُ وقرآنه} قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه {فإِذا قرآناهُ فاتبع قرآنه} قال فاستمع له وأنصت.
ثم إن علينا أن نقرأه؛ قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أقرأه؛ خرّجه البخاري أيضا.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ولا تعْجلْ بالقرآن مِن قبْلِ إن يقضى إِليْك وحْيُهُ} [طه: 114] وقد تقدّم.
وقال عامر الشّعْبي: إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حُبه له، وحلاوته في لسانه، فنُهي عن ذلك حتى يجتمع؛ لأن بعضه مرتبط ببعض.
وقيل: (كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرّك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه، فنزلت {ولا تعْجلْ بالقرآن مِن قبْلِ إن يقضى إِليْك وحْيُهُ} [طه: 114] ونزل: {سنُقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6] ونزل: {لا تحرك به لِسانك}) قاله ابن عباس.
{وقرآنه} أي وقراءته عليك.
والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران.
وقال قتادة: {فاتبع قرآنه} أي فاتبع شرائعه وأحكامه.
وقوله: {ثُمّ إِنّ عليْنا بيانهُ} أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام؛ قاله قتادة.
وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما.
وقيل: أي إن علينا أن نبيّنه بلسانك.
قوله تعالى: {كلاّ} قال ابن عباس: أي إن أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه.
وقيل: أي {كلاّ} لا يُصلّون ولا يزكّون يريد كفّار مكة.
{بلْ تُحِبُّون} أي بل تحبون يا كفار أهل مكة {العاجلة} أي الدار الدنيا والحياة فيها {وتذرُون} أي تدعون {الآخرة} والعمل لها.
وفي بعض التفسير قال: الآخرة الجنة.
وقرأ أهل المدينة والكوفيون {بلْ تُحِبُّون} {وتذرُون} بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد؛ قال: ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء؛ لذكر الإنسان قبل ذلك.
الباقون بالياء على الخبر، وهو اختيار أبي حاتم، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى: {يُنبّأُ الإنسان} وهو بمعنى الناس.
ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع؛ لأن ذلك أبلغ في المقصود؛ نظيره: {إِنّ هؤلاء يُحِبُّون العاجلة ويذرُون وراءهُمْ يوْما ثقِيلا} [الإنسان: 27].
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يوْمئِذٍ نّاضِرةٌ إلى ربها ناظِرةٌ}
الأوّل من النّضْرة التي هي الحسن والنّعمة.
والثاني من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة؛ يقال: نضرهم اللّهُ ينضرُهم نضْرة ونضارة وهو الإشراق والعيش والغنى؛ ومنه الحديث: «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها» {إِلى ربها} إلى خالقها ومالكها {ناظِرةٌ} أي تنظر إلى ربها؛ على هذا جمهور العلماء.
وفي الباب حديث صُهيب خرجه مسلم وقد مضى في (يونس) عند قوله تعالى: {لِّلّذِين أحْسنُواْ الحسنى وزِيادةٌ} [يونس: 26].
وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غُدْوة وعشية؛ ثم تلا هذه الآية: {وُجُوهٌ يوْمئِذٍ نّاضِرةٌ إلى ربها ناظِرةٌ} [القيامة: 22، 23].
وروى يزيد النحوي عن عِكْرمة قال: تنظر إلى ربها نظرا.
وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم.
وقيل: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب.
وروي عن ابن عمر ومجاهد.
وقال عِكرمة: تنتظر أمر ربها.
حكاه الماوردِيّ عن ابن عمر وعِكرمة أيضا.
وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده.
واحتجوا بقوله تعالى: {لاّ تُدْرِكُهُ الأبصار وهُو يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103] وهذا القول ضعيف جدّا، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار.
وفي الترمذيّ عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جِنانه وأزواجه وخدمه وسُرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غُدْوة وعشيّة» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وُجُوهٌ يوْمئِذٍ نّاضِرةٌ إلى ربها ناظِرة}. قال هذا حديث غريب.
وقد روي عن ابن عمر ولم يرفعه.
وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جلّ وعزّ إلا رِداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن» وروى جرير بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم عِيانا كما ترون هذا القمر، لا تُضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم ألاّ تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ {وسبِّحْ بِحمْدِ ربِّك قبْل طُلُوعِ الشمس وقبْل الغروب} [ق: 39] متّفق عليه.
وخرجه أيضا أبو داود والترمذيّ وقال حديث حسن صحيح. وخرج أبو داود عن أبي رزِين العُقيليّ قال: قلت: «يا رسول الله أكلّنا يرى ربه؟ قال ابن معاذ: مُخْلِيا به يوم القيامة؟ قال: نعم يا أبا رزِين. قال: وما آية ذلك في خلْقه؟ قال: يا أبا رزِين أليس كلّكم يرى القمر. قال ابن معاذ: ليلة البدر مُخْلِيا به. قلنا: بلى. قال: فالله أعظم. قال ابن معاذ قال: فإنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله أجل وأعظم».
وفي كتاب النسائيّ عن صُهيب قال: «فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحبّ إليهم من النظر، ولا أقرّ لأعينهم» وفي التفسير لأبي إسحاق الثّعلبيّ عن (أبي) الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتجلّى ربّنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه، فيخرّون له سُجّدا، فيقول ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عِبادة» قال الثّعلبيّ: قول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه، فتأويل مدخول؛ لأن العرب إذا أرادت بالنظر الإنتظار قالوا نظرته؛ كما قال تعالى: {هلْ ينظُرُون إِلاّ الساعة} [الزخرف: 66]، {هلْ ينظُرُون إِلاّ تأْوِيلهُ} [الأعراف: 53]، و{ما ينظُرُون إِلاّ صيْحة واحِدة} [يس: 49] وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرت فيه، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعِيان.
وقال الأزهريّ: إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ؛ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار، وإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، كذلك تقوله العرب؛ لأنهم يقولون نظرت إليه: إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته؛ قال:
فإّنكُما إِنْ تنْظُرانِي ساعة ** مِن الدّهْرِ تنفْعنِي لدى أُمّ جُنْدُبِ

لما أراد الإنتظار قال تنظراني، ولم يقل تنظران إليّ؛ وإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه؛ قال:
نظرتُ إليها والنُّجُومُ كأنّها ** مصابِيحُ رُهْبانٍ تُشبُّ لِقُفّالِ

وقال آخر:
نظرتُ إليها بالْمُحْصّبِ مِنْ مِنى ** ولِي نظرٌ لولا التّحرُّجُ عارِمُ

وقال آخر:
إِنِّي إليك لِما وعدت لناظرٌ ** نظرُ الفقيرِ إلى الغنيِّ المُوسِرِ

أي إني أنظر إليك بذلّ؛ لأن نظر الذلّ والخضوع أرقّ لقلب المسؤول؛ فأما ما استدلوا به من قوله تعالى: {لاّ تُدْرِكُهُ الأبصار وهُو يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103] فإنما ذلك في الدنيا.
وقد مضى القول فيه في موضعه مستوفى.
وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، ونظره يحيط بها؛ يدل عليه: {لاّ تُدْرِكُهُ الأبصار وهُو يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103] قال القشيريّ أبو نصر: وقيل: (إلى) واحد الآلاء: أي نعمه منتظرة وهذا أيضا باطل؛ لأن واحد الآلاء يكتب بالألف لا بالياء، ثم الآلاء: نعمه الدُّفّع، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمة عنهم، والمنتظر للشيء مُتنغِّص العيش، فلا يوصف أهل الجنة بذلك.
وقيل: أضاف النظر إلى الوجه؛ وهو كقوله تعالى: {تجْرِي مِن تحْتِها الأنهار} [البقرة: 25] والماء يجري في النهر لا النهر.
ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين؛ قال الله تعالى: {فألْقُوهُ على وجْهِ أبِي يأْتِ بصِيرا} [يوسف: 93] أي على عينيه.
ثم لا يبعد قلب العادة غدا، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه؛ وهو كقوله تعالى: {أفمن يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ} [الملك: 22]، فقيل: يا رسول الله! كيف يمشون في النار على وجوههم؟ قال: «الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم» {ووُجُوهٌ يوْمئِذٍ باسِرةٌ} أي وجوه الكفار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة.
وفي الصحاح: وبسر الفحلُ الناقة وابتسرها: إذا ضربها من غير ضبعة.
وبسر الرجلُ وجهه بسُورا أي كلح؛ يقال: عبس وبسر.
وقال السّديّ: {باسِرةٌ} أي متغيرة والمعنى واحد.
{تظُنُّ أن يُفْعل بها فاقِرةٌ} أي توقن وتعلم، والفاقرة: الداهية والأمر العظيم؛ يقال: فقرتْه الفاقرة: أي كسرت فقار ظهره.
قال معناه مجاهد وغيره.
وقال قتادة: الفاقرة الشرّ.
السُّديّ: الهلاك.
ابن عباس وابن زيد: دخول النار.
والمعنى متقارب.
وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم، قاله الأصمعي.
يقال: فقرتُ أنف البعيرِ: إذا حززته بحديدة.
ثم جعلت على موضع الحزِّ الجرِير وعليه وترٌ ملْويّ، لِتذلِّله بذلك وترُوضه؛ ومنه قولهم: قد عُمِل به الفاقرة.
وقال النابغة:
أبى لِي قبْرٌ لا يزالُ مُقابِلِي ** وضرْبةُ فأْسٍ فوق رأْسِي فاقِرهْ. اهـ.